تحرص كل أمة صاحبة حضارة على نسبة أي ابتكار كان له شأن في تغيير مفاهيم سياسية أو اقتصادية أو حربية لها، ويحاول مؤرخو العلوم الإتيان بأدلة وبراهين لإثبات هذا الحق والسبق المزعوم. وتوجد نزعة قومية لدى مؤرخي العلوم والتقنيات في أوروبا إلى إنكار سبق المسلمين في ابتكار البارود والمدافع حتى أن بعضهم نسب ابتكار المدافع إلى الصينيين، والبعض الآخر إلى الأوروبيين بغير دليل ولا برهان، علمًا بأن المدفع لم يظهر يقينًا في أوروبا إلا في فلاندريا Flandern حوالي عام 1314 أو 1319م(i) وهو تاريخ لاحق على استخدام المسلمين له ، وفي هذا سنسوق أدلة وبراهين تدحض مزاعم الآخرين وترد الحق إلى أصحابه المسلمين.
البارود
هناك جدل واسع حول تحديد اسم المكتشف أو المخترع الأصلي للبارود و المدفع، حتى اتضح أن كثيرًا من الباحثين لم يدركوا حقيقة الأمر نتيجة لخطأ في فهم الأسلوب اللغوي الذي كتبت به المخطوطات القديمة. وقد ذكر ابن البيطار في كتابه "مفردات الأدوية" كلمة "بارود"(ii) لأول مرة، وبمناقشة الآراء التي قيلت عن أي الأمم اخترعت البارود نطمئن إلى سبق المسلمين في هذا المجال ؛ فجوستاف لوبون وسارتون وزيجريد هونكه وغيرهم كثيرون أجمعوا على أن الأوروبيين قد عرفوا البارود عن طريق العرب ونقلوه عنهم، وفي ذلك يقول جوستاف لوبون: "وعزي الاختراع إلى روجر بيكون زمنًا طويلاً.. مع أن روجر بيكون لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركبات القديمة، فقد عرف العرب الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل"(iii) ، وتقرر المستشرقة هونكه "أن الخليط العربي العجيب الذي يحدث رعدًا وبرقًا قد وصل إلى بعض علماء أوروبا أمثال روجر بيكون وفون بولشتدن"، وتضيف: "ثم حدث أن انتقلت النظرية إلى التجارب العلمية – لدى العرب – التي هزت كيان العالم، فالعرب في الأندلس هم أول من استخدمه في أوروبا"(iv).
ويستشهد أصحاب الرأي السابق بما وجدوه في المخطوطات الإسلامية التي تعود إلى القرن 4هـ/ 10م (أي قبل بيكون بثلاثة قرون، فقد جاء في وصف صناعة البارود: "تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف من الكبريت وتسحق حتى تصبح كالغبار، ويملأ بها ثلث المدفع فقط خوفًا من انفجاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعًا من خشب تتناسب فتحته مع جسامة فوهته، وتدك الذخيرة بشدة ويضاف إليها البندق (كرات الحديد)، ثم يشعل ويكون قياس المدفع مناسبًا لثقله"(v). وفي كتاب حسن نجم الدين الرماح "الفروسية والمناصب الحربية" والذي يرجع للقرن 7هـ/ 13م، شرح وتفصيل لصناعة البارود في العالم الإسلامي، عن طريق استخلاص ملح البارود من الطبيعة وتنقيته في المختبرات الكيميائية، فهذا الكتاب يدلنا على أن تلك الصناعة كانت قد بلغت في العالم الإسلامي شأنًا كبيرًا من التطور.
ويشيع البعض أن الحضارة الصينية عرفت البارود قبل المسلمين، واستعملوه في الألعاب النارية والأغراض الدينية. والذي استعمل في حقيقة الأمر لدى الصينيين هو ملح البارود وتركيبه الكيميائي (نترات البوتاسيوم)، وهو مايعرف باسم (البارود الأسود الخام)، وسُمِّي بالبارود؛ لأنه قابل للاشتعال عند التسخين أوإذا لامسته النار.. فهذه المادة الخام هي التي عرفها الصينيون واستعملوها كما هي في الطبيعة دون تركيب أو تحضير، وكان معروفًا في مصر وسماه أهلها "الثلج الصيني"(vi) ، فيقول نيدهام في مؤلفه "العلم والحضارة في الصين": إن المسلمين قد عرفوا ملح البارود "Salt peter" عن الصينيين وكانوا يسمونه "الملح الصيني"، وكان هذا الملح يؤخذ من الحجارة أي من الموارد الطبيعية في أواسط وشرقي آسيا"(vii). أما بارود المدافع Gun powder فهو تركيبة كيميائية اخترعها المسلمون في معاملهم، وتتركب من (نترات البوتاسيوم بنسبة 75%+ كبريت بنسبة 10% + فحم بنسبة 15%)(viii).
المدافع.. اختراع إسلامي
وقد اختلف مؤرخو العلوم حول نسبة ابتكار أو اختراع البارود إلى ثلاث حضارات، واختلفوا أيضًا في نسبة اختراع المدفع إلى نفس الحضارات الثلاث، ولردِّنا على ذلك سنذكر استخدام المدفع في شرق وغرب ووسط العالم الإسلامي، مقرنين هذا الاستخدام بالتواريخ التي تدحض آراء الآخرين.
المدافع في شرق العالم الإسلامي
يرجع بدر الدين الصيني المدفع الناري الذي يحتاج إلى البارود في قذف مقذوفاته أنه من صناعات المسلمين، وذلك من المصادر الصينية التي تذكر استعماله (مدافع المسلمين) هوي هوي بهو، وورد في محاضرة سيانغ يانغ فو ضمن تاريخ المغول ترجمة للقائد علي يحيى الأويغوري الذي بعثه قبلاي خان إلى مهاجمة "سيانغ يانغ فو" أن في عسكره مسلمًا، يسمى إسماعيل كان يعرف كيف يصنع المدفع الناري، فتمكن القائد المذكور من فتح المدينة بمساعدة هذا النوع من المدافع، ويذكر في ترجمة (يوان سي جو) أي الإمبراطور الأول لأسرة المغول – قبلاي خان، قائدًا له يسمى باسم (لانغ كيا) (Lang Kia)، كان يستحضر كل من يعرف صناعة المدافع من ولاية خوي إلى العاصمة، وكان منهم ستمائة من المغول والمسلمين والصينيين. فأرسلهم وعلى رأسهم "جانغ لين" إلى الحملة على الولايات الشرقية، واستعملوا في هذه الحملة المدفع المعروف "بمدفع المسلمين"، وجاء في "تهونغ جيانغ" أي تاريخ الصين العام في الجزء الرابع والتسعين ما يأتي: لقد ظهرت الثورة في مدينة "فانغ" في الشهر الأول سنة 1232م. فقتل حاكمها. وكذلك ظهرت في مدينة "سيانغ يانغ فو" فمات فيها كثير من المغول. فأصدر الإمبراطور وهو (قبلاي خان) أمرًا إلى قائد كبير معروف هو علي يحيى، بإغاثة المدينتين على عجل، فحمل – أولاً - على مدينة (فانغ)، وكان المسلمون الذين في جيوشه يصنعون له نوعًا من المدافع، فاستخدمه في أعماله العسكرية حتى تمكن من فتحها، ثم توجه بجيوشه إلى "سيانغ يانغ فو" وضربها به. فوقعت المقذوفات على عمارات عالية البناء وقوع الصاعقة عليها، فارتعد السكان وارتجفوا من رَعْدِه. وأما قواد الثوار فأكثرهم قد تسوروا السور وخرجوا خاضعين لأمر (الجنرال) علي يحيى فقبل تسليمهم، ثم دخل المدينة وأمَّنها باسم الإمبراطور(ix).
وأقوى الشهادات الصينية هو ما وجدناه في كلمة (بهو) في ديوان لغات الصين، ويقول صاحب الديوان عن هذه الكلمة: وهي آلة نارية تستعمل في الحرب، لقد صنعها إسماعيل وعلاء الدين من أهل الغرب(x)، للمغول الذين استعملوها في الحملة على مدينة "سيانغ يانغ فو" في سنة 1232م، ومن ثَمَّ تعلم الصينيون استعمال المدفع الناري في الحرب(xi).
في غرب العالم الإسلامي
قام الأندلسيون خاصة في غرناطة، بتطوير الأسلحة النارية واعتمدوا بشكل متنامٍ على البارود، ويعتقد أنهم أبدعوا أول أنواع المدافع في التاريخ، هذا وهناك بعض المخطوطات العربية (قسم منها محفوظ في دير الإسكوريال، قرب مدريد) التي تفيد بأن عرب الأندلس وعرب المغرب استخدموا بعض الأنواع الأولى من المدافع منذ أوائل القرن 7هـ/ 13م.
وذكر ابن خلدون في تاريخه لدى حديثه عن السلطان المريني أبي يوسف، وحصاره لمدينة سجلماسة على طرف الصحراء في سنة 672هـ/ 1273م، قال ابن خلدون: "ونصب عليها آلات الحصار والعروات، وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة في البارود، بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها"(xii).
وعن الأندلسيين والمغاربة أخذت أوروبا وسواها معارف استخدام المدافع والبارود وقامت بتطوير ذلك، ويذكر هنا أن الأسبان اعتمدوا على المدفعية في حروب الاسترداد، وسقطت الأندلس، وقامت دول أوروبا وعلى رأسها كل من أسبانيا والبرتغال بنشاط بحري هدفه احتلال وتطويق العالم الإسلامي، ووقعت معارك كثيرة بين عرب المغرب وأساطيل هاتين الدولتين: ولعل أهمها معركة وادي المخازن 1578م في المغرب، ثم ما يعرف باسم حرب الثلاثمائة سنة مع الجزائر، وفي هذه المعارك كانت المدفعية هي السلاح الرئيسي والحاسم، ولقد أبدى عرب الشمال الأفريقي تفوقًا واضحًا في استخدام هذا السلاح، حتى ليخيل للمرء أن المغرب كانت بعد معركة وادي المخازن مهيأة للدخول في مرحلة تاريخية جديدة نظيرة لما عرف في عصر النهضة في أوروبا، إنما تبديد طاقات هذه المملكة في أفريقيا السوداء، وسيطرة زوايا الصوفية وتحكمها بعقول الجماهير إلى قلة المعادن والأخشاب، مع أسباب أخرى أدى إلى ضياع هذه الفرصة