نوفمبر2008 صدر تحليل من ثلاثة أجزاء حول حقبة ما بعد ويندوز والاتجاهات الجديدة في البرمجة التي تتبناها مايكروسوفت للسنوات المقبلة, وحينما حضر للقاهرة راي أوزي ـ رئيس هندسة البرمجيات بمايكروسوفت أوعقل مايكروسوفت الجديد بعد بيل جيتس كما يلقبه الكثيرون ـ حرصت علي لقائه للتعرف علي هذه الموجة العميقة من التغيير في فلسفة واستراتيجيات واحدة من الإمبراطوريات الكبري في عالم البرمجة التي طالما قدمت إبداعات تطرف البعض في حبها وتطرف البعض الآخر في نقدها وكرهها, لكنها ظلت دوما ذات تأثير علي الجميع, والسؤال الآن: كيف يفكر أو ما الذي يفكر فيه عقل مايكروسوفت الجديد؟.
قد لا يعرف الكثيرون أن أوزي هو الخليفة الحقيقي لبيل جيتس في مايكروسوفت وليس ستيف بالمر رفيق دربه الطويل والرئيس التنفيذي الحالي للشركة, فراي أوزي يشغل منصب رئيس هندسة البرمجيات بمايكروسوفت, أما بالمر فيشغل منصب الرئيس التنفيذي للشركة, بعبارة أخري بالمر موجود ليدير أعمالا يومية ويسوق ويبيع, أما أوزي فجاء ليفكر ويبدع, وبيل جيتس في الأصل مبدع وصاحب مدرسة في البرمجة قبل أن يكون مسوقا وبائعا, ولم يشغل أحد سواه منصب رئيس هندسة البرمجيات بمايكروسوفت حتي تقاعد عن المنصب في2006 ونقل المنصب لأوزي.
كنت قد التقيت أوزي لحوالي عشرين دقيقة علي هامش مشاركته في مسابقة كأس التخيل العالمية التي تنظمها مايكروسوفت سنويا واستضافت مصر دورتها الأخيرة في يوليو الماضي, وقرأت الكثير مما كتب عنه وما أعلنه هو في خطبه وأحاديثه المنشورة عبر الإنترنت, وحصيلة ذلك كله تجعلني أقول أن خلفية اوزي العملية وفلسفته الإبداعية تمثل نقطة انطلاق مغايرة للخلفية والفلسفة الإبداعية التي جسدت نقطة الانطلاق التي بدأ منها جيتس في سبعينيات القرن الماضي, فجيتس جاء في ذك الوقت المبكر بمدرسة في البرمجة تبلورت حول فكرة الربط التام بين مكونات الحاسب الشخصي ونظام التشغيل
بحيث يتكامل الإثنان في وحدة واحدة تستطيع القيام بمهام إدخال ومعالجة وإعادة عرض البيانات بشكل مستقل تماما عن أي حاسبات أخري متوسطة أو كبيرة بما يضمن أن يكون لكل شخص حاسبه وبياناته وعالمه المعلوماتي سواء بالمكتب أو المنزل, وبأن يكون هناك نظام تشغيل واحد يمكنه العمل علي جميع الأجهزة, وذلك عكس الأفكار والتوجهات التي سادت منذ اربعينيات القرن الماضي وحتي سبعينياته وثمانينياته, وتبلورت حول الحاسبات الكبيرة أحادية النزعة التي تقوم بمهام إدخال البيانات ومعالجتها وإعادة عرضها وفقا لنظام تشغيل خاص بكل حاسب, وبرمجيات يتم تطويرها له خصيصا وكانت تعمل بشكل مركزي يتيح سيطرة كاملة علي البيانات داخل المؤسسات والمنشآت, والتعامل معها كان يتم عبر شبكة معلومات يرتبط بها مداخل أو شاشات طرفية لا حول لها ولا قوة, ثم تطورت قليلا في الستينيات مع ظهور الحاسبات المتوسطة والصغيرة التي تعمل ايضا عبر شبكات معلومات.
بعبارة اخري جاء بيل جيتس ليثبت أن قلاع الشبكات الراسخة يمكن تحييدها والعمل من خارجها بكل كفاءة وقوة, وطوال ما يزيد علي ثلاثين عاما ظل يثبت كل صباح صلاحية رؤيته للتطبيق.
أما راي أوزي فخلفيته العملية تقول أنه رجل شبكات ونظم معلومات مؤسسات, ظل طوال مساره المهني في البرمجة يعمل أو يؤسس أو يشارك في تأسيس شركات تنتج نظما وبرمجيات تعمل عبر الشبكات, لعل من اشهرها نظام لوتس نوتس لإدارة دورات العمل بالمؤسسات, ونظم التشغيل الموزعة التي تعمل علي أكثر من حاسب عبر شبكة معلومات, أي أنه جاء من العالم الذي قام جيتس في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بمخالفته وتقويض العديد من أركانه بإبداعات قضت مضاجعه لأبعد الحدود.
من هنا فإن اختيار اوزي للمنصب يجسد التغيير العميق الذي حدث بمايكروسوفت, وتقديري أنه تغيير جاء استجابة لمراجعات وتفكير طويل داخل الشركة تم خلاله رصد ما يجري من تغييرات جوهرية في تكنولوجيا المعلومات, لعل أهمها ثورة الإنترنت وما حملته من تطورات لم تخطر علي بال أحد, ثم ظهور منافسين جدد لم تكن مايكروسوفت تتحسب لهم, بدءا بشركات الإنترنت وعلي رأسها خصمها اللدود جوجل, وانتهاء بالشبكات الاجتماعية كفيس بوك وغيرها, وفي ضوء ما سمعته من أوزي وما قرأته عنه يمكنني القول انه كعقل جديد لمايكروسوفت هناك بعض الخطوط العريضة في طريقة تفكيره من أبرزها:
ـ أنه يسعي لتغيير مهمة مايكروسوفت من شركة تبدع برمجيات للحاسبات الشخصية والحاسبات الخادمة العاملة بشكل فردي إلي شركة تبدع البرمجيات المعشقة أو العميقة الترابط والتداخل بنيويا مع بعضها البعض, والتي تنقل حالة التداخل والترابط أو التعشيق لتصبح واقعا معاشا بين المستخدمين والادوات والشبكات, وأن برمجيات مايكروسوفت ستعتمد بصورة أقل مستقبلا علي ما يمكن أن تفعله بنفسها وبمفردها مقارنة بما يمكن أن تفعله مع الآخرين, وهذه هي الانفتاحية التي ستنقل الأوضاع من برمجيات يستخدمها اشخاص ومؤسسات إلي خدمات معتمدة علي الويب, وقد لخص أوزي هذا الوضع بقوله: البرامج مقبلة علي الموت والويب مقبل علي الحياة.
ـ سيترتب علي هذا التوجه أن تحتضن مايكروسوفت كلا من عالم الويب وعالم الأدوات وليس عالم البرمجيات كما كان في الماضي, ذلك لأن حقبة الحاسبات الشخصية بدأت خلال السنوات العشر الماضية تتراجع تاركة الساحة لحقبة جديدة يكون فيها الويب هو مركز الخبرات والقدرات التي يتم تقديمها ليس فقط من خلال برنامج لتصفح الويب ولكن من خلال أدوات مختلفة من بينها الحاسب الشخصي والتليفون ومشغلات الوسائط ومشغلات العاب الفيديو والتليفزيون والسيارة وغيرها, وسيظهر اثر ذلك في البرمجيات والتطبيقات المعتاد استخدامها, فمن الامور الشائعة الآن وجود قوائم مثل ملف وتحرير ومشاهدة في تطبيقات أوفيس, لكن في البرمجيات المعشقة ستظهر أشياء جديدة تضاف إلي هذه القوائم مثل قوائم تتعلق بالتواصل عبر الفيس بوك, بل علي سطح المكتب ستتغير أشياء معتادة, فمجلد حاسبي مثلا سيحمل اسما جديدا لكي يعبر عن حالة التعشيق والترابط فيما بين نظام التشغيل والتطبيقات والأدوات, ويكون مدخلا ينفذ منه المستخدم إلي جميع الادوات التي يتعامل معها بعدما تترابط معا ويتم إدارتها عبر الويب ككل متناسق وسلس.
ـ يلي ذلك أن تقدم مايكروسوفت مفاهيم جديدة في بناء نظم التشغيل, وتتجه لبناء نظم مختلفة عن نظم ويندوز التي عرفناها طوال السنوات الماضية, ففي النظم الجديدة التي يلمح إليها راي أوزي سينتقل مركز الثقل داخل نظم ويندوز من الحاسب المكتبي أو المحمول ـ وهي الفكرة المركزية التي قامت عليها إبداعات بيل جيتس في السابق ـ إلي مكان ما علي الويب أو شبكات المعلومات, مما يتيح الفرصة لتحرير الحاسب الشخصي ومكوناته وما يحتويه من برمجيات من الخضوع التام والتبعية المطلقة لنظام التشغيل المثبت عليه, ويصبح له قدر من الاستقلالية والمرونة والقدرة علي العمل خارج السيطرة الكاملة للنظام, ومحصلة ذلك هي فك الارتباط بين مكونات الحاسب من الأجزاء الصلبة والبرامج والتطبيقات التي يستخدمها المستخدم ونظام التشغيل كطرف مسئول عن إدارة العلاقة بين الاثنين ليصبح الويب هو الإطار العام الذي يجمع الثلاثة معا.
ـ هناك تغيير في نظرة ما يكروسوفت للإبداع والملكية الفكرية والبرمجيات مفتوحة المصدر, فأوزي يقبل بأن للبرمجيات مفتوحة المصدر ومنهج المصادر المفتوحة عموما دورا مهما في تنمية الإبداع, وقد قال خلال لقائي معه أن المصادر المفتوحة مطلوبة ومفيدة في مرحلة الإبداع خاصة علي مستوي صغار المبدعين, فالمجتمع المفتوح يقدم لهم موارد جمة في النسخ والتجميع والبناء, وهنا يمكن أن يتم الاستفادة من المصادر المفتوحة في تكوين ملكية فكرية جديرة بان تصبح مغلقة, لأن المبدع يميل إلي حماية الإبداع لبناء مزيد من الإبداع.
وسواء اتفقنا مع هذه الرؤية أم اختلفنا فنحن امام موقف يقبل بدرجة من التعايش بين الإبداع المفتوح والإبداع المغلق, وهي نقلة ضخمة مقارنة بسنوات طويلة كان فيها بيل جيتس ـ ومعه مايكروسوفت ـ يتعالي حتي علي مجرد ذكر أو النطق بكلمة المصادر المفتوحة والبرمجيات المفتوحة المصدر, وقد رأيته يفعل ذلك وهو يرد علي سؤال وجه له في اللقاء الذي عقد معه خلال زيارته الأولي للقاهرة قبل عدة سنوات.
ـ فهمت من أوزي خلال لقائي معه أنه يقبل بأن تكنولوجيا' الحوسبة السحابية' التي اعلنت عنها مايكروسوفت خلال الفترة الأخيرة ليست سوي إعادة صياغة جديدة للأفكار والتكنولوجيات التي سادت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وحكمت طريقة بناء شبكات المعلومات وأساليب استخدام الحاسبات, لكنه اردف قائلا إن مايكروسوفت تري أن الوضع الآن مختلفا من حيث التكلفة التي أصبحت منخفضة إلي حد كبير, ونطاق الانتشار الذي أصبح عالميا إلي حد كبير مع الإنترنت, وقبول أوزي بأن جوهر الفكرة لم يتغير عن الماضي يعني أن مايكروسوفت تمضي إلي القبول بما قلت في البداية بأنه يختلف إن لم يكن يتعارض مع النقطة أو الفكرة التي انطلق منها بيل جيتس والتي سبق توضيحها.
خلاصة القول إن عقل مايكروسوفت يتغير في طريقة تفكيره وهذا أمر جدير بالرصد من قبل كل مهتم أو مستخدم لتكنولوجيا المعلومات وأدواتها, أفرادا وشركات ومؤسسات ودولا, فهم جميعا يتعاملون ويتأثرون بصورة أو بأخري بالطريقة التي تفكر بها مايكروسوفت وتبدع بها منتجاتها وخدماتها